ماذا صنع لنا المخرج الفيزيائي "كريستفور نولان" ؟
فاز فيلم "أوبينهايمر" بالنصيب الأكبر من الجوائز في حفل الأوسكار لعام ٢٠٢٤ بعدد ٧ فئات : ( فئة أفضل فيلم ، فئة أفضل ممثل رئيسي ، فئة أفضل مخرج ، فئة أفضل ممثل مساعد ، فئة أفضل موسيقي تصويرية ، فئة أفضل تصوير سينمائي ، فئة أفضل مونتاج). وهو الشئ المُتوقع الحقيقة بدون مفاجأت علي الإطلاق. لكن من بين العشرة أفلام المرشحين لفئة أفضل فيلم التي فاز بها "أوبينهايمر" أعتبره الأقل أحقية بهذه الجائزة الحقيقة. بل أعتبره واحد من الأعمال المتواضعة فنيًا قليلاً في مسيرة المخرج "كريستفور نولان" لأسباب عديدة. قبل أن تبني يا عاشق "نولان" حاول أن تصبر معي للنهاية. أعلم أن الرأي صادم وغير مُرحب به للبعض لكنني في الحقيقة أري أن الفيلم حصل علي ضجيج ومبالغة شديدة في المدح بدون النظر في العمل بعمق كافي لفهم جوانبه وزاوياه كلها كاملة.
أنا لا أنكر قوة وتأثير سحر الفيلم علي الكثيريين ممن أحبوه لكن في نفس الوقت لا أنكر أيضاً أن الفيلم يقف علي أساس سردي مُتهالك ومهترئ ويعرض من منظور واحد تنقصه المصداقية في عرض الحقيقة كاملة وواضحة بدون إنتقائية. كما لا أنكر روعة الشكل التعبيري في طريقة "نولان" للحديث عن الفيزياء ونظرية الكم والمواضيع العلمية الأخري. لكن الجانب السياسي من الفيلم يمثل وجهة نظر واحدة فقط. كذلك الدراما الوثائقية في الفيلم فقد كانت العامل الأهم لجعل الثلاث ساعات زمن الفيلم تمر علي المشاهد بلا لحظات ملل لكن هذا الطابع الدرامي الوثائقي لا يتعمق في أي حدث من الأحداث المذكورة بل يعطي مجرد تلخيص لها علي إستحياء فقط. هي حكاية مُهترئه إختار فيها "نولان" أن يتجاهل العنصر الرئيسي وأن يختار الحديث بطريقة مُختلفة يُظهر فيها ولعه بالموسيقي فقط ويلعب فيها لعبته المعروفة "أخلط الموسيقى والحوار معاً لجعل المشاهد ينتشي".
"نولان" إعتمد بشكل مُبالغ فيه علي نوع سريع من البناء السردي. نوع تكون فيه السرعة هي المتحكم الأول في الإنتقالات في شكل وطريقة السرد مما جعلها أشبه بقفزات سريعة لا تُعطي المشاهد الوقت الكافي لإستيعاب كل هذا الضجيج. بسبب هذا الرتم المُضطرب لا يتسني أن يُدرك المشاهد حتي أبعاد الشخصيات الرئيسية قبل الثانوية في الفيلم. مع وجود شخصيات ثانوية كثيرة كانت بدون تأثير وكأنها فراغ بدون قيمة حقيقية في الأحداث. كنقاط فارغة في لوحة. فالكثير من الشخصيات الثانوية والشخصيات المساندة في الفيلم لا تخدم أي هدف في القصة.
وكيف يكون الفيلم في الأساس دراما حوارية وليس فيه ما يدل علي أن هناك حوار حقيقي فعلي يجري فيه ؟ مع الأخذ بالإعتبار أن مدة الفيلم الزمنية طويلة جدا. لماذا يجب أن يكون هناك الكثير من التنقل بين فترة وأخري لدرجة تجعل متابعة الأحداث وربطها صعبة ؟ هل التلاعب بالتسلسل الزمني مهم هنا ؟ لماذا يجب أن تصحب الموسيقي الصاخبة كل شئ في الفيلم ؟ وتلك الأصوات الصاخبة الأخري الغير مفهومة من الأساس. هل كل هذا مهم ؟ هل كان يجب أن نري "روبرت" عاري وهو وعشيقته "جان تاتلوك" ؟ هل هذه رسالة مُبطنة بشكل ما ؟ ولماذا يتم عرض هذا خلال جلسة اللجنة بالتحديد وكأنها لقطات تخيلية ؟ هل المقصد هنا أن "أوبينهايمر" مكشوف بحقيقته الشيوعية أمام الجميع. إذا كانت هذه الفكرة فعلاً من المشهد ! فأنا لم أري أسخف منها. وهل تقديم "أوبينهايمر" علي أنه يساري شيوعي يتمتع بحياة جنسية عشوائية وغريبة كان مهمًا ؟ هل علاقته الجنسية أهم من عرض وتمثيل مشاهد الدمار في هيروشيما وناجازاكي ؟
نحن بالفعل أسفون علي إنفجار القنبلتين علي رؤوسكم لكن مشهد "جوليوس روبرت أوبنهايمر" وهو عاري مع عشيقته كان أهم من عرض جثثكم المحترقة. نعتذر عن ذلك وسنقوم بعرض الفيلم لكم في اليابان في ٢٩ مارس ٢٠٢٤ لتستمتعوا. شكراً لتفهمكم..
سأكذب لو قلت أنني لم أشعر بشئ خلال مشاهدة الفيلم. بالفعل شعرت بالكثير لكن في بدايته ونهايته فقط ولأنها كانت مثيرة للإهتمام الحقيقة. لكن العمل ككل مشوش للغاية. هو عبارة عن سيرة ذاتية بديعة بصرياً فقط. وهنا فشل نولان في تحقيق عادته الخاصة بالتلاعب في التسلسل الزمني. فهي لا تحقق شئ واضح. بل كانت غير مُتناسقة ومزعجة كأسلوب سردي لا يخدم القصة نفسها. وبالطبع الأمر مختلف عند مشاهدة فيلم "العقيدة" الذي صدر في ٢٠٢٠ فقد كان الأمر مُغاير تماماً بالنسبة للتلاعب بالجدول الزمني فيه لأنه منطقي ومتناسق مع القصة.
ثُلث الفيلم بالتحديد غير مُقنع أو غير صادم بمعني أصح وأدق. حتي العلاقة بين "ستراوس" و "روبرت" لم تكن راسخة في السيناريو وأحداث الفيلم. كانت هناك الكثير من التقلبات والتحولات في النصف الأخير فقط. وكانت ستعني الكثير لو قُدمت قليلاً. "نولان" لم يكن مهتم بسرد حكاية إنسانية هنا أكثر من أن يكون مُتلاعب في شكل وطريقة السرد نفسها.
الموسيقي الصاخبة تلك والتي تخلق توتر غير مُبرر في بعض المشاهد وكأنها دخيلة علي الحوارات هو أكثر ما يؤرقني تجاه الفيلم. الموسيقي نفسها أكثر من رائعة لكن توظيفها هو أكثر شئ مزعج حولها. الفيلم يخفي الكثير والكثير ويختبئ خلف التصوير والموسيقي الصاخبة والتي تدفن الحوار في الأساس. وهو أغرب ما يمكن أن أقوله عن فيلم من إخراج "نولان" لكنها الحقيقة. فقد أساء "نولان" هنا إستخدام أهم أسلحته الإخراجية الفتاكة..
من هو "برومثيوس" الحقيقي ؟
قام "نولان" بنصب كل التركيز علي رحلة صناعة وتطوير القنبلة الذرية في "أوبنهايمر" والإحتفال بهذه الرحلة العلمية ببراعة بصرية بديعة. لكن ما يتم تجاهله هنا هو أن نتيجة مئات السنوات من خبرة الإنسان في الفيزياء ، أنتجت سلاح دمار شامل تم إستخدامه كإستعراض للقوة العسكرية الأمريكية فقط. وهو ما يحتفي به تقريباً نولان في فيلمه في المقام الأول. ثُلث الفيلم عبارة عن قصة تتأرجح بشكل مُتعرج ذهاباً وإياباً لكن الأمر يتعلق بكل شئ هنا إلا عن الإبادة الجماعية التي خلفت ورائها ٢٢٠ ألف ضحية. كل القصة تتمحور حول هل كان "أوبينهايمر" يُكن بالولاء للولايات المتحدة الأمريكية أم لا ؟
لو قمنا بإختصار كل هذة القصة فستكون عبارة عن إعتذار وقح للإمبريالية الأمريكية. فيلم ترويجي هدفه الدعاية في المقام الأول وإعتبار للقومية علي حساب الجثث والأشلاء. فيلم "أوبينهايمر" هو سلاح سياسي بحت ، كما هو أيضا إحتفال مُخزي يحتفل بإبادة جماعية ويختبئ خلف قناع العلم. هذا النوع من الأسلحة له القدرة علي تدمير التفكير النقدي بشكل عنيف. في صدد تبرئه الجرائم الأمريكية العسكرية والإبادة الجماعية في الحرب ضد اليابان ومحو التضامن مع الضحايا أنفسهم بدون أي ذكر لهم.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والولايات المتحدة الأمريكية تروج لفكرة كاذبة مفادها أن قصف مدينتي "هيروشيما" و "ناجازاكي" بالقنبلتين النوييتين كان أمر ضروري لإنهاء الحرب وأن هذا الفعل أنقذ أرواح أكثر مما قتل. لكن يأتي هذا الترويج لهذه الكذبة بشكل أكبر وأكثر فعالية وتأثير مع سلاح جيوسياسي خارق وهو فيلم "أوبينهايمر" نفسه. الذي لا يعرف مساراً سوي ترسيخ هذة الكذبة البشعة ولكن بشكل أكبر وإسكات للأصوات التي تدعوا إلي نقاش حولها. تناول "نولان" للتاريخ عن هذا الحدث الذي يُعتبر هو الأهم في القرن هو تناول إنتقائي بحت وواضح. فالفيلم بالكاد يعترف بإنتهاء الحرب مع موت "هتلر" وأن أوروبا كلها أعلنت إنتهاء الحرب إكلينيكياً ونظرياً وأن إستسلام اليابان علي الطاولة مطروح بعد هجمات الجيش الأحمر عليها. والمُذهل أن هذه الحقيقة ليست بالتافهه لدرجة عدم ذكرها والتغاضي عنها بل هو تجاهل لحقائق محسومة ولا يتم حتي مناقشتها بالتفصيل الكافي أو حتي التركيز عليها في فيلم مدته الزمنية ٣ ساعات كاملة فيه ١٨ دقيقة للمشاهد الجنسية ! مجرد حجج أخلاقية واهية تكررت مع إصرار "اوبنهايمر" علي صنع القنبلة قبل الألمان والروس. لكن هذه الحجة لم تعد مهمة أو ذات معني بعد رمي القنبلة علي اليابان. فقد كانت جاهزة للرمي.
"ايزنهاور" وهو رئيس سابق للولايات المتحدة إعترف في سيرته الذاتية وأقتبس منها : "رمي القنبلتين علي اليابان لم يكن له حاجة علي الإطلاق". وقال : "اليابانيين كانوا علي إستعداد للإستسلام ولم يكن من الضروري ضربهم بهذا السلاح الفتاك". وتابع قائلاً: "كرهت أن أري بلادنا (الولايات المتحدة الأمريكية) وهي تستخدم هذا السلاح كأول بلد يستخدمه في التاريخ".
كان يجب علي "نولان" وضع هذه الكلمات في مقدمة الفيلم لا التغاضي عنها. لأن الفكرة من قصف اليابان كانت مجرد إستعراض للقوة الجيوسياسية من أمريكا علي العالم كله وعلي حساب الأبرياء الذين فقدوا حياتهم في الهجوم.
لكن السياق العام للفيلم يدور حول العلم والفيزياء والفرق بين القنبلة الهيدورجينية والذرية ودروس الفيزياء التي لم تكن أهم من السياق السياسي في الفيلم وهو المسؤول في المقام الأول عن تقرير مصير حياة اليابانيين. ما المشكلة في خلق مساحة كافية في الفيلم لذلك النقاش الجيوسياسي مثل نقاش العلماء والتركيز عليهم بهذا القدر المُمل ؟
حتي أن اليابان نفسها قد اعتذرت عن هجوم ميناء "بيرل هاربور". المشكلة هنا أن الأغلبية تُسلم بفكرة أن إستخدام القنبلة ضد اليابان كان أمر لا بد منه لإجبارها علي الإستسلام وأن أي نقاش فهو شئ غير مرحب به تماماً. ومن خلال الإبن المدلل لهوليوود "نولان" ففيلم "أوبينهايمر" كان تأكيد علي هذا الكذبة. ما يثير الإشمئزاز فعلاً أن أمريكا لم تعتذر عن جريمتها هذه ، حسنا لا بأس فهناك من لم يعتذر أبدا عن كل جرائمة التي إرتكبها ضد اليهود الأوروبيين !
ما أحاول قوله هنا والمقصد من كل هذا الضجيج الذي أحاول خلقه بكلامي. هو أنه كيف تكون السينما سلاح مهم وقوي في إضفاء الشرعية علي جريمة قذرة مثل هذه من خلال فيلم ضخم مثل فيلم "أوبنهايمر". هذا هو الموضوع ببساطة.
"أنا لا أهتم بإحساس (اوبنهايمر) بالذنب.
لقد ماتت عائلتي كلها بسببه".
كانت هذة كلمات "ميا سومرز" مواطنة من الجيل الخامس من اليابانيين الأمريكيين ، كانت عائلتها تعيش في "هيروشيما" وقت سقوط القنبلة عليهم.
الكذبة التي مهدت للإبادة الجماعية !
خلال الحرب العالمية الثانية تم تبرير "مشروع مانهاتن" علي أنه في الأصل تسابق مع ألمانيا النازية في محاولة لصنع وتطوير قنبلة ذرية من خلال إستخدام الأبحاث الهامة والثورية والعلماء. لكن اتضح مع الوقت أن ألمانيا لم تكن قريبة من الأساس في هذا السباق وبعيدة تماما كل البُعد عن مضمار سباق التسلح النووي. لكن علي الجانب الأخر جندت الولايات المُتحدة الأمريكية العلماء للعمل تحت قيادة عالم واحد وهو "جوليوس روبرت أوبنهايمر" في محاولة للتغلب علي النازيين لإنهاء الحرب تماماً.
المعلومة التي لم تُذكر في الفيلم بالمناسبة أن كل اليورانيوم الذي حصلت عليه الولايات المُتحدة الأمريكية لإستخدامه في "مشروع مانهاتن" وصنع القنبلة كان في الأصل ملك لدولة "الكونغو" وتمت سرقته وهي تحت ظل الإستعمار البلجيكي حينها. حتي مع كل هذا ؛ وبعد إستسلام ألمانيا النازية لقوات الحلفاء في ٧ مايو عام ١٩٤٥ واصلت الولايات المتحدة الأمريكية تقدمها في مشروع مانهاتن سئ السمعة ولكن مع تحديد وإختيار لعدو جديد حتي تكتمل الحجة الأخلاقية والدافع من إستمرار المشروع بأكمله وهو أن قوات الإمبراطورية اليابانية لن تستسلم أبداً !
بعد الإختبار الفني الأول "الثالوث" للقنبلة لم يكن ذلك كافياً للجنة المعنية بالأسلحة النووية والتي كانت مكونه من قادة عسكريين وحكوميين وعلماء فقرروا أنه سيتم إسقاط القنبلتين ؛ واحده فوق مدينة "هيروشيما" وأخري فوق مدينة "ناجازاكي". لإنهاء الحرب تماماً. وحتي مع محاولة تأكيد الفيلم - علي إستحياء - حول إسقاط منشورات تحذيرية للإخلاء لكن المنشورات نفسها لم تحدد أين سيتم إلقاء القنبلتين ؟ ولا حتي المُدن التي سيتم إستهدافها. مع العلم وهذه الحقيقة التي تجاهل "نولان" أن يذكرها في فيلمه أنه كانت هناك معلومات إستخبارية تفيد بأن اليابان كانت تفكر في الإستسلام بالفعل قبل كل هذا بسبب توغل الجيش الأحمر. مما يتضح أن كل الحجج الأخلاقية تلك كانت واهية وعبارة عن كذبة كبيرة. ومع ذلك تجاهل الفيلم أيضاً حقيقة أن الإتحاد السوفييتي هو من حسم الحرب بالنصر علي النازيين. وتم تجاهل أكثر من ٢٦ مليون جندي من الإتحاد السوفييتي قتلوا في الحرب في قتالهم ضد الفاشية الأوروبية والنازيين. الفيلم يتجاهل كل هذا ولا يعترف بأي من الحقائق التي تجعل مسار القصة ينحرف عن مهمة تلميع الصورة القذرة للإمبريالية الأمريكية.
كيف يكون الإتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية الدولية هما العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية وفي سبيل ذلك يُحرق أكثر من ٢٢٠ ألف ياباني ؟ هذا ما كان يقتنع به أهم من كانوا في اللجنة المؤقتة للأسلحة النووية هؤلاء هم من كان يتخذون القرار ويصنعون الحجة الأخلاقية والكذبة وكان من ضمنهم العالم الأول في المشروع وبطل الفيلم "جوليوس روبرت أوبنهايمر".
أمريكا هيروشيما وناجازاكي لا تختلف عن أمريكا العراق.
ما فعله "نولان" في فيلمه "أوبينهايمر" كانت تقوم به هوليوود علي مدي عقدين من الزمن مع حرب العراق. فالأمر لا يختلف هنا عن العراق أو اليابان. الأمريكيون أنفسهم لا يحبون سماع أي شئ عن ما فعلته بلادهم لا يهتمون بالسياسات الإمبريالية الدموية لبلادهم. لا تهمهم الأحداث الدراماتيكية عن الغزو أو ما قبل الغزو أو ما بعده. هوليوود فقط تصنع الأفلام لتبرير غزوها الفاشل علي العراق. بإظهار جنودها علي أنهم أبطال وأساطير وطنيون ضحوا بحياتهم لكن مع الكثير من التشوية للطرف الأضعف. هذة هي الخلطة السحرية. الأفلام من هذا النوع في الأساس تقوم علي هدف واحد فقط. التلاعب بالعقل الجمعي فقط. وهي تنجح في ذلك في الغالب. هي أفلام موضعية وإنتقائية في الأساس لا تشكك في البداية نفسها. كيف بدأت الحرب ؟ ما أسبابها ؟ لا يوجد تشكيك في كيف خلقت هذه الحرب من الأساس. لا شئ عن ذلك. تكون من وجهة نظر الجندي الأمريكي فقط. ولا عجب إن كانت هذه الأفلام في طي النسيان.
لقد قتل "صدام حسين" وأنجزت المهمة ! هذا كل شئ. هكذا هي الأفلام الأمريكية عن العراق. لا تناقش شئ لا تمتلك مضمون حقيقي أو قصة صادقة ترويها للمشاهد. لا مخاطر فيها أو حولها. كما هو الحال مع الفيلم الشهير (the Hurt Locker). ببساطة هذا النوع من الأفلام لا يقول شئ أكثر من بطولات فردية لا علاقة لها بما حدث علي أرض الواقع. فمثل فيلم "قناص أمريكي" ٢٠١٤ هو فقط يطبع أسطورة من ورق فقط بدون أي نظرة حقيقة وصادقة عن ما حدث بالفعل. هنا لا يتم دفن الحقائق فقط هنا يتم تجاهل كل شئ من الممكن أن يجلب العيد للشركات المُنتجة. وهم يبتعدون قدر الإمكان عن ذلك وسيبتعدون أكثر وأكثر. وستبقي أفلامهم عن العراق ضبابية مُكررة لا تقول أي جديد علي الإطلاق. وهو ما يجعل هذا النوع يقف بشكل ما علي نفس الخط مع فيلم "أوبينهايمر" نحن لا نعلم أي شئ عن الطرف الأخر. لن نقول شئ عن وجهة النظر الأخري. لا داعي لذكرهم من الأساس إلا لكونهم لن يستسلموا أبداً وفقط من أجل دفع الحجة الأخلاقية أكثر وأكثر.
"الثمن يستحق العناء" هذا ما قالته "مادلين أولبريت" وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية والرئيس بيل كلينتون حين تم سؤالها في مقابلة عن مقتل نصف مليون عراقي غالبيتهم من الأطفال. هذه هي السياسة الإمبريالية للولايات المُتحدة الأمريكية وهنا تتلخص في هذا التصريح المُخزي "الثمن يستحق العناء".
لم يذكر الفيلم أن العدد الإجمالي لضحايا اليابان جراء إلقاء القنبلتين على مدينتي "هيروشيما" و "ناجازاكي" هو ٢٢٠ ألف شخص. وكذلك "نولان" لم يُظهر تمثيلاً مرئياً لهم أو على الأقل ذكر لهم في الفيلم أو حتي مجرد صور للمدينتين والموت يُقيم مع أهلها. لا وجود حرفي أو ضمني للضحايا !
من الغريب فعلاً أن تنتظر هذا من فيلم في الأصل يحتفي بوقاحة بالإمبريالية الأمريكية. هؤلاء الضحايا سُلبت حياتهم وهوياتهم وانسانيتهم بهذه الطريقة. حتى كلمة اليابان نفسها لا تُذكر في الفيلم إلا للإشارة لكونها بلد تأبي الاستسلام فقط - "اليابان لن تستسلم" - للتأكيد على الحجة الأخلاقية الواهية تلك بمعنى أنه كان لا بد من إلقاء القنبلتين.
يؤكد "نولان" علي هذة الكذبة أكثر وأكثر من خلال التغاضي عن وتجاهل الحقائق التاريخية في الفيلم. ونرى مجرد إستعارة من أحلام "روبرت أوبنهايمر" وهلوساته وكأنه يُعذب جراء جريمته الإبداعية وتداعياتها المميتة ومع ذلك تم تقديم الإنفجار الإختباري على أنه لوحة فنية بديعة ونحن نشاهد النيران وهي تستعر وتخلق تلك السحابة الفطرية والتمثيلات الذرية التي تنطلق بسرعة الضوء مع صوت الطنين المُزعج المُصاحب لها.
لكن هل نري مقدار الدمار الذي نتج عن إلقاء القنبلتين علي "هيروشيما" و "ناجازاكي".؟ هل نري ذلك فعلاً ؟ حتي ولو لقطة واحدة. نحن نري فقط جانب "أوبينهايمر" وهو نادم علي هذه الدماء البريئة لكن هل نري الدماء نفسها ؟ هل نري الأجساد المُحترقة تلك ؟ هل نري ياباني واحد وهو يروي ما حدث ؟ هل نري إعتذار عن هذه الإبادة الجماعية ؟ لا شئ ! فقط نري بطل روايتنا المُعذب النبيل النادم ولا شئ أخر. لا نسمع حتي صراخ هؤلاء المُعذبون الحقيقين من هول إلقاء القنبلة علي رؤوسهم. نحن لا نراهم وهم يتوسلون ويستغيثون لأجل حياتهم التي كانت ضحية إبداع "أوبينهايمر" وقرار في المكتب البيضاوي.
من المُهين فعلاً أن يُنتج فيلم كامل بهذة التكلفة الإنتاجية عن معاناة مزعومة لمخترع القنبلة الذرية ولا نري فيه لقطة واحدة عن ٢٢٠ ألف إنسان كانوا ضحية هذا الإختراع . شئ مُشابه قليلا مع الأفلام التي تحكي معاناة الجيش الأمريكي والجنود في إحتلال العراق ومعاناتهم في إبادة الأطفال وإغتصاب النساء.
من المُهين أن نري معاناة اليابانيين وهي يتم تجاهلها بشكل صارخ هكذا فعلاً. وإجبار المُشاهدين علي التمسك برواية واحدة فقط وهي التعاطف مع المنتصر ولا شئ أخر. لكن "نولان" يجعل مشاهدة فيلمه مُستساغة وجميلة بدون ذكر أو عرض لهذه الإبادة الجماعية. هو لا يسمح لك بأن تفكر حتي. هو يضعك فقط أمام الشاشة وأنت تمتالك حالة واحدة فقط وهي التأمل في الحوارات الفيزيائية البلاغية والإستمتاع بالموسيقي والتصوير البديع لهذة التحفة الفنية. حتي أن الموسيقى نفسها كان لها الدور الأكبر في التلاعب بالمشاهد حتي لا يملك الوقت للتفكير أو الإستنتاج. وتم توظيفها بهذا الشكل كان يخدم هذة الفكرة. التحكم في العاطفة.
من الضحايا الأخرين لهذا البرنامج النووي في الولايات المتحدة نفسها ضد السكان الأصليون والأمريكيين المكسيكيون الذين تم إستغلال وسرقة أرضهم وتدميرها بسبب إختبارات القنبلة. وتظهر منطقة "لوس ألاموس" علي أنها منطقة مهجورة مع أنها في العكس كان يعيش بها أكثر من ١٣ ألف نسمة في منطقة قريبة من الإنفجار الأول ناهيك عن عدم ذكر من مات منهم بعدها بسنوات بسبب السرطان لأنهم كانوا يعيشون بالقرب من منطقة إختبار القنبلة. لكن لا أنكر بصيص الإعتراف هذا من أوبينهايمر نفسه وهو يخبر الرئيس الأمريكي "ترومان" بأن يعيد تلك الأراضي التي أخذوها إلي السكان الأصليين بعد الإنتهاء من مشروع مانهاتن.
لكن العمل بالكاد يتطرق لهذة الجوانب من الأساس لأنه قائم علي جني الأموال من هذة الكارثة الإنسانية وليست لتصحيح أو حتي إعتذار عن جرائم الإمبريالية الأمريكية. شركة "يونيفيرسال" لم تروج للفيلم في اليابان ولم يعرض هناك. من السهل فهم ذلك والفيلم يتناول محو شعب اليابان كإحتفاء وإحتفال بالإمبريالية الأمريكية.
وكما قال الكاتب والناقد الأدبي "إدوارد سعيد" : فإن كل الحكام هم في الأصل ورثة لأولائك الذين أنتصروا قبلهم ولذلك فإن التعاطف مع المنتصر يفيد الحاكم دائما في كل الأحوال".
فيلم أوبينهايمر يهدف في الأساس لجعل الجمهور مُتعاطف مع مخترع القنبلة الذرية ويخلق التعجب والذهول من هذا الإنجاز العلمي المُذهل في صورة فيلم هوليودي يجسد التفوق التكنولوجي للمجتمع الإمبريالي الغربي. وهو يجسد جبروت القوة الإمبريالية الثقافية الأمريكية. تحت عنوان "التعاطف مع المنتصر".
كذلك يصرف النظر عن الحقائق الهمجية والدموية خلف الإبادة الجماعية التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية في ناجازاكي وهيروشيما. الفيلم يخفي الكثير والكثير عن ما أظهره نولان فيه. فهو يتجاهلها بصراحة شديدة مثل التغاضي عن ذكر الإبادة البيئية لمنطقة إختبار القنبلة في ولاية نيو ميكسيكو !
علي الرغم من أن "كريستفور نولان" يُظهر وجوده الفني الممتاز وجهودة السينمائية لعرض هذا النوع من الفوضي التي تدور داخل شخصية مثل "أوبينهايمر" تُعتبر الأهم في القرن. لكن هذا لا ينفي وجود التناقض فيما يخص الإفلات من جريمة إرتكتبها الولايات المتحدة الأمريكية بالإبادة الجماعية لشعب اليابان والإفلات من العقاب كذلك. المشكلة هنا مع "نولان" أنه لا يذكر ذلك أو حتي يُلمح له. ولا حتي إدانة واحدة من العلماء في الفيلم تجاه الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. حتي أنه لا يحقق في إستبداد الولايات المتحدة وغياب شرعيتها. أو إنحرفها الأخلاقي في قمع أصحاب البشرة السوداء في تلك الفترة.
بل تظهر علي أنها صانع السلام في العالم. وعلي الرغم من أن الفيلم لا يشكك في أخلاقيات إستخدام القنبلة الذرية بل يتواري "نولان" ويتهرب من هذة المعضلة الأساسية. فالفيلم في الأصل لا يناقش بشكل واضح أو فعلي فكرة أن الولايات المتحدة الأمريكية أسقطت القنبلتين علي اليابان لإنهاء الحرب ويتهرب حتي من فرصة إتهام الولايات المتحدة الأمريكية بالإرهاب العالمي والإبادة الجماعية.
في الحقيقة لا يمكن لأفلام السيرة الذاتية فعل كل شئ مع ذلك ومن الخطأ أن ننتظر المصداقية والوضوح في الأيدلوجية والتوجهات من خلال إنتاجات هوليوود وإبنها المدلل "نولان" ينال التقدير من الأكاديمية علي صنع فيلم يحتفي ويحتفل بدموية الإمبريالية الأمريكية.
"أوبينهايمر" ليس مكروهاً في اليابان فقط !
مدينة "سانتا في" في ولاية نيو ميكسيكو والتي قام بإنشائها الجيش الأمريكي كمدينة كاملة جديدة خاصة بمشروع "مانهاتن" في ١٩٤٢ حيث كان العلماء الذين جمعتهم الولايات المتحدة من كل أنحاء أوروبا موجودين ويعملون وكذلك كانوا يعيشون مع أسرهم داخل المدينة. هناك بالتحديد حدث أول إنفجار "إختباري/الثالوث" للقنبلة الذرية. ولاية نيو ميكسيكو هي أكثر مدينة عانت من القنبلة الذرية بعد هيروشيما وناجازاكي بسبب الإختبارات التي جرت في مدينة "لوس ألاموس". غالببة سكان المدينة تم تهجيرهم من أراضيهم لإستحواذ الجيش عليها من أجل مشروع مانهاتن سئ السمعة. أغلبهم كانوا من أصل أسباني والبعض من قبيلة "ميسكاليرو أباتشي" وهم من السكان الأصليين للأرض. منذ وقت الإختبار الأول للقنبلة وحتي اليوم هم في أشد المعاناة بسبب ذلك المشروع المشؤوم. ووفقاً لموقع "أكسيوس" : فإن "اجيالا كاملة منهم عانت بشدة من السرطانات النادرة (عافانا الله وإياكم) بعد سقوط حطام (الزجاج الأخضر) الإنفجار الإختباري "الثالوث" علي المنازل والماشية. كذلك إنخفض معدل ولادة الأغنام في المنطقة بشكل كبير عقب الإختبار. وكافحت بعض الحملان الأخري في محاولة المشي كما ولدت حملان أخري بلا عيون.
تقول "تينا فوركودا" وهي إحدي الناجيات من مرض السرطان وشريكة مؤسسة لمبادرة Tularosa Basin Downwinders Consortium وهي خاصة بتقديم والتعويضات لضحايا الإختبار النووي.
تقول : "أوبينهايمر لم يعتذر ، كذلك الحكومة الفيدرالية وليس لدي أي شئ ضده لكنني أحتقر حقيقة أنهم أحضروا مشروع مانهاتن إلي نيو ميكسيكو لأنه غير شكل ولايتنا للأبد".
سكان ولاية نيو ميكسيكو لم يحصلوا علي أي تعويضات حتي اليوم. مع أن القانون الفيدرالي أقر في الكونغرس بمنح التعويضات عام ١٩٩٠ للمتضررين من عمال اليورانيوم في ولاية نيفادا والتي كان بها إختبار أيضا. وكذلك لعمال أخرين من ولايات أخري. لكن لم تحصل ولاية نيو ميكسيكو علي شئ من الحكومة. ويرون ذلك علي أنه "عنصرية". لأن القانون إستثناهم من التعويضات تماما حتي يومنا هذا.
قبل أن يفوز فيلم "أوبينهايمر" بسبع جوائز أوسكار وتحديداً في شهر يناير وقبل حفل الأوسكار المقدم من الأكاديمية للفنون والعلوم والصور المتحركة. أرسل السيناتور الأمريكي الجمهوري "جوشي هاولي" خطاب للأكاديمية ليحثهم علي الإعتراف "بالضحايا الأمريكيين للتجارب النووية". كانت هذه الرسالة بعدما أعلنت الأكاديمية ترشيح فيلم "أوبينهايمر" ل١٣ ترشيح لفئات مختلفة.
ويقول في خطابه : " بينما تواصلون الاستعدادات للاحتفال في العاشر من شهر مارس القادم ، أكتب إليكم لأحثكم على تضمين البرامج التي تعترف بضحايا التجارب النووية الأمريكية، يروي فيلم أوبنهايمر قصة مقنعة عن برامج الاختبار هذه. لكنه لا يحكي قصة الأمريكيين الذين تركوا وراءهم - الذين ما زالوا يحسبون العواقب الصحية والمالية للأبحاث النووية الأمريكية، بعد كل هذه السنوات".
وتابع قائلاً : "يُختتم فيلم أوبنهايمر بصورة مؤرقة للعالم الذي تستهلكه النيران النووية. هذا المستقبل بالذات لم يتحقق بعد. لكن عددًا لا يحصى من الأمريكيين الطيبين قد دفعوا بالفعل ثمن إهمال حكومتهم في الاختبار والفشل في إزالة الألغام والنفايات النووية. لديهم الحق في أن يتم الاستماع إليهم على المسرح الوطني - وخاصة على المسرح الخاص بكم".
بالطبع لم ترد الأكاديمية علي هذا الخطاب وتجاهلت مضمونه بالفعل وفاز الفيلم بسبعة جوائز دون ذكر واحد للضحايا في اليابان أو في نيو ميكسيكو نفسها الولاية الأمريكية.
المصادر :
https://www.kqed.org/arts/13932204/oppenheimer-japanese-erasure
https://www.atomicarchive.com/resources/documents/hiroshima-nagasaki/give-me-water/chapter8.html
https://www.gao.gov/blog/legacy-oppenheimers-nuclear-research-los-alamos
https://www.nti.org/atomic-pulse/downwind-of-trinity-remembering-the-first-victims-of-the-atomic-bomb/
https://www.history.com/news/atomic-bomb-test-victims-new-mexico-downwinders
https://www.aljazeera.com/opinions/2022/3/25/lets-remember-madeleine-albright-as-who-she-really-was
https://www.aei.org/op-eds/japan-was-already-defeated-the-case-against-the-nuclear-bomb-and-for-basic-morality/
https://www.cnn.com/2016/05/28/politics/donald-trump-criticizes-barack-obama-pearl-harbor/index.html
https://www.bbc.com/future/article/20200803-the-forgotten-mine-that-built-the-atomic-bomb
https://www.axios.com/2020/07/15/75th-anniversary-trinity-nuclear-test-technology
https://www.axios.com/2023/07/21/los-alamos-new-mexico-oppenheimer
https://www.axios.com/science/2023/07/22
https://www.axios.com/2021/07/15/trinity-test-first-atomic-bomb-latinos-new-mexico
https://www.hawley.senate.gov/hawley-urges-oscars-recognize-american-victims-nuclear-testing-oppenheimer-film-reaps-honors
Twitter: @abdulkarim200k
IG: @imjustcarti
تعليقات
إرسال تعليق